(فجيعة أن تجمع ثلاجة الطب العدلي شاعرين عراقيين مثل
عقيل علي وأحمد آدم في ليلتهما الأخيرة على سطح الأرض)
مازال للموت طعم الدم الجنوبي،وكل الجنائز تؤدي الي كربلاء،لقد شبعنا من الموت فكيف نجوع من الحياة؟
وكما يحدث في كل مرة،إجتمع الشعراء ليكذبوا حتي يصدقهم الميتون،إلاّ ثلاثة إجتمعوا في ثلاّجة الموتي في باب المعظم،نام الجميع ليلتهم،شعراء افريقيا واسيا واوروبا،وحتي ملائكة الله الساهرون علي مولدات شمسه الكهربائية،الا ثلاثة كانوا يهزأون من مبضع التشريح وهو يفتح صدورهم.
كعادته،وضع أحمد آدم نظارته الذهبية جانبا حتي لايغيّر لونَها دمُ القصائد، ووضع عقيل علي بحركة مسرحية عكازه بعد أن حرمه منها السراق الذين سرقوا حذاءه معها،كان نجمُ الوحيد الذي اهتم بتصويرهم فهم نجوم علي هواء الموت الحي المباشر.
كثيرة هي الليالي التي جمعت عقيلا واحمد ادم،لكن الليلة الأخيرة في الثلاجة كان لها طعم الوحشة.
- أخيرا وجدت سريرا أنام عليه،قال عقيل.
- أخيرا سأرتاح من الركض خلف لقمة أيتامي،قالها أحمد وهو يبتسم.
كان نجمُ الوحيد الذي رأي موته الذي يسير إليه لان الله أثابه بأن رحمه من لعنة الشعر،
- هل أقرأ لك ياعقيل قصيدتي الأخيرة وتقرأ لي! فقد ذهب أصحابنا الي نسائهم،وبقينا وحدنا،هيا لنوقظ هذي الجثث التي ستسافر الي الله غدا.
- البارحة يااستاد أحمد أخذ سيّد وجيه قصيدتي الأخيرة من جيبي،كنت جامدا فلم أستطع منعه، لم يتصور وجود مهرجان شعري في ثلاجة التشريح،فهذا المكان الأخير الذي يفكر فيه الشعراء لاقامة مهرجان فيه،هل تريدني أن أخبز لك رغيفا وأطعمه فم الشعر لتنقره العصافير؟
إقرأ ياأحمد قصيدتك الأخيرة،ولكن كيف ستقرأ وصدرك مثقوب بالطلقات ياصاحبي، ايها النبيل، كيف سيخرج الصوت وهو يرتدي انفاسَكْ
دثّرتُ عري قميصي فـــيك فانتبهت
أصابعي،كنتَ مابيني وبين دمي
رأيتُ وجهك يدعوني،سمعتُ صدي
يلمُّ همسك بين الهدب حين عمي
قلتُ إسقِني،ظمأي لابـحر يخرسُه - حتي بموتك يامسكين كنتَ ظمي
أغلق بخــبز يديك الآن نافذتي
رغيفُ موتك أبقانــــــي بغير فمِ
(دخلت الي الثلاجة،كانت مظلمة الا من البرد القارص والمشبع برائحة الموتي، كانت هناك 6 جثث نائمة بانتظار ترابها الذي سيهال علي وجهها،لم اتبين عقيل علي، فاشار الي العامل الي جهة اليسار، كان العصفور البشري يرقد مفتح العينين، فاغر الفم، جامدا في حرارة ماادري تحت الصفر البشري( اتيقن ان عقيل علي قد عوضه الله عن كل الانقطاعات الكهربائية في ثلاث حيوات ببرد جمد عظامه النحيلة)، لكن عقيا حين افاق من الموت ، لم يتجرأ هذا النحيف علي الخروج من باب المشرحة قبل ان يخرج منها الكربلائي المضمخ بايتامه، ثم فارقنا وذهب معنا الي موقف الباص،فروحه الان موظفة في منشاة نقل الركاب في الاخرة.
اللهم وهذا عقيل علي عبدك المذنب، نزيل حفرتـك النجفية،وانت ارحم الراحمين، لم يكن وزيرا في حكومة علاوي لينهب مايواري به سوأة فقره، ولم يكن من المحوسمين، كان شاعرا، ينام في موقف الباص، إلهي، وانا قرات كتابك الكريم مرة ثانية فلم اجد ان النوم علي مصاطب نقل الركاب سيئة امرت باثباتها الكرام الكاتبين، ولم يكن من المداحين والرداحين واصحاب الكروش المعتقة،فقد كان لايفقه من اوزان الخليل سوي صوت ارتطام العجين بطين الا كان انسانا اخف وزنا من حسنة، وارق من نسمة ،لم يرد علي من اتهمه بسرقة الشعر الا بالابتسام ، وانا الشاهد الهي، انه لم يؤذ ذبابة او نملة ليسلبها حقها، كان في موته كريما،اعطاني قصيدة موته وهو ميت يتقطر البرد من اطرافه المدماة وعينه اليسري التي جمد الدم عليها، لكنه رفض الخروج من المشرحة ، حتي خرج منها المظلوم الكربلائي احمد آدم،وكأنه يشارك عزاء ذويه بموته، الهي ان تحاسبه بعدلك فهو من الهالكين،وان تحاسبه برحمتك فانت ارحم الراحمين، وانا اتيقن انك الهي الرحيم لن تؤذيه حتي وان عبَّ بحر الخمر، فقد ناله منا كل العقوق وكل التهم الموجبة لموته عريانا وسكرانا في مزبلة العراق العظيم. اللهم اغفر لنا عقوقنا ونفاقنا لعقيل، فوحقك لم يقتله سوي انواتنا الفارغة،ونرجسياتنا المنفلقة، نحن فقراؤك الذين حملناه من مقهي الفقراء الي حيث مات في مزبلة ارواحنا العفنة،لنقول لك الهي لاتاخذه بذنوبنا، ولك الحمد الهي الرحيم انك رحمته برحمتك الواسعة حيث اعدته الي قبره كامل الجسد من غير قطع راس او بتر رجل او اصبع.ربما لموتكم ايها الغرباء،ربما لموتكم ايها الغافون فوق ضمائرنا،نعتذر لموتكم الذي ساهمنا فيه بغباء شعري،نعتذر من عقيل ان كانت لنا ذرة من نفاق ونحن نحمل جثته من الثلاجة لتفتيشها ، نعتذر لجثته التي أخرجنا قصيدته الأخيرة منها،نعتذر لتابوته الذي حملناه بايادينا وأصعدناه الي السيارة ، نعتذر لأخوتنا ونحن ندفع الرشاوي لموظفي الطب العدلي لتسريع تشريحهم لأنهم كانوا يجهلون التقطيع الشعري فنحن كنا نخاصمهم في الشعر،نعتذر لهم لاننا جلبنا القطن والنايلون لتغليف جثثهم خشية أن يلوثوا التابوت بدمهم) أعتذر لكم اصدقائي لأننا علي ما يبدو نتلذذ برثائكم ،أعتذر لأحمد آدم صديقي الذي لم أستطع الكتابة عنه خجلاً من الموقف الذي وضعني فيه الموت ، فقد جمدت يدي عن الكتابة لكم أيها العاقّون حتي بموتكم ، لم يكن لي يد بموتكم أيها النائمون وانتم مغمضو الأعين .. لم أطلق عليكم كلاب حروفي لتنهش ذكراكم وانتم تتنعمون بضيافة الله وناره الأكرم منا جميعاً ، أعتذر لكم اخوتي لأنني نظرت اليهم نظرة الانسان أولاً ..لم اتحمل مثلكم الصمت ، هكذا خلقني الله ، فأعذروني ان قسوت عليهم ، فلم اكن مثل تلك البندقية العمياء التي أطارت الآدمي الكربلائي،ولم أكن مثل حرس عزرائيل الذي قبض روح خباز الناصرية عقيل علي،نحن قتلناهم ومشينا في جنازتهم،ونحن الان من نتجمع كالسيل لرثائهم وتحطيم أضلعهم بكتاباتنا الجوف.